كلما أتت هجمة متوحشة على إحدى المدن العربية ؛ كنا في الخلف ، نتأمل ونتألم ، أي نطيل النظر في هذا السقوط ولا نملك في لحمة الهيكل إلا الألم على جنبات تاريخ مليء بالهزائم والانكسارات . وغير خاف ، أن هذه الهزائم صيغت شعرا منذ النكبة أي الاحتلال الفعلي لفلسطين إلى الآن . وظلت القضية كسهم يجوب الخرائط المدورة من المحيط إلى الخليج ، قضية تعري على قضايا أخرى ، وتطرح الجدليات في الأفق الغاص بالأسئلة الحارقة حول مصير أمة موزعة الحبال في المفترق .
الشعر الحديث يحفظ لهذه الأمة هزيمتها وسقوطها في ذاك العقد المتشكل من المدن في تداخل غريب ، والذي كلما سقطت إحدى حباته ، انفرط في ذاك الشتات الذي لا يفضي إلا لنفسه في المرايا المنكسرة التي غورت تحت ضربات التصدع التي تقتضي تحسسا للهيئة ، واستنهاضا للهمم ، ووقوفا لمداراة هذا المصير . يقول الشاعر أحمد المجاطي في بعض قصائده :
يحمل في غثائه الأشجار
والكتب الصفراء
والموائد
والصمت والقصائد
ودار لقمان
وأطلالها والمدن الأسوار
حين يأتي أحد الشعراء على تشخيص وضعية مدينة ما ، فهي ( أي تلك المدينة ) بشكل من الأشكال تطرح كمعادل موضوعي لصيرورة حياة ووجود ، صيرورة حياة متعلقة بواقع الانكسار العربي الراسخ في الوجدان والعقل العربي الذي صعب عليه أن يعقل نفسه . وهنا يفلح الشعر في تحويل هذه المدن المغتصبة إلى رموز إنسانية . يقول الشاعر محمود درويش :
وأنت تسدد فاتورة الماء ، فكر بغيرك
( من يرضعون الغمام )
يخلق الشعر مع شعراء عميقين ، لهم حسهم الدقيق بالمراحل المنتسب إليها ، أقول يخلق الشعر ذاك الجدل العميق بين المدن العربية التي تلتقي في الوضعية والملمح ، فتغدو القدس في بغداد ، وهذه الأخيرة في غزة ... وهو ما يجعل هذه المدن أداة سابحة في الزمن العربي الرديء والإنساني وبالأخص منه النقط السوداء في التاريخ الإنساني . فتتعرى الإختلالات ، وتطفو تلك الكوارث على السطح . فالعدو لا يدمر العمران فقط ؛ بل الإنسان وجذوره، الإنسان بين ذاكرته ومستقبله . وبالتالي فهي حرب على كافة المستويات ، الهدف من ذلك تدمير كيان ومصير . من هنا تظل بعض الكتابات في العمق عبارة عن صرخات حياة ووجود بالنسبة لأمة تحيى موتها على أكثر من صعيد : نذكر هنا الشاعر عبد الله راجع وسفر النار بين المدن السفلى، أحمد المجاطي و جدلية المدن العربية ، ومحمود درويش وتنقله الغريب على صهوة الحمام بين مدن ومدن لا تنتهي في الجرح ، أمل دنقل ولازمته لا تصالح...
تبدو الآن ، هذه المدن ضمن الخرائط المدورة ، كأنها تواجه مصيرها ضمن سطح المعارك الذي لا يفضي لأي عمق ، ماعدا تسيد ترسانة ما. وإن لم تحافظ هذه المدن على هندساتها في الجدران ، فإنها تجري في تلك المياه المقيمة في النصوص طبعا .